فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (86)}.
ويذكر لنا الله سبحانه وتعالى سبب خيبة هؤلاء وضلالهم لأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة.. جعلوا الآخرة ثمنا لنزواتهم ونفوذهم في الدنيا.. هم نظروا إلي الدنيا فقط.. ونظرة الإنسان إلي الدنيا ومقارنتها بالآخرة تجعلك تطلب في كل ما تفعله ثواب الآخرة.. فالدنيا عمرك فيها محدود.. ولا تقل عمر الدنيا مليون أو مليونان أو ثلاثة ملايين سنة.. عمر الدنيا بالنسبة لك هو مدة بقائك فيها.. فإذا خرجت من الدنيا انتهت بالنسبة لك.. والخروج من الدنيا بالموت.. والموت لا أسباب له ولذلك فإن الإسلام لا يجعل الدنيا هدفا لأن عمرنا فيها مظنون.. هناك من يموت في بطن أمه ومن يعيش ساعة أو ساعات، ومن يعيش إلي أرذل العمر.. إذن فاتجه إلي الآخرة، ففيها النعيم الدنيا والحياة بلا موت المتعة على قدرات الله.. ولكن خيبة هؤلاء أنهم اشتروا الدنيا بالآخرة.. ولذلك يقول الحق عنهم: {فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون}.. لا يخفف عنهم العذاب أي يجب ألا يأمنوا أن العذاب في الآخرة سيخفف عنهم.. أو ستقل درجته أو تنقص مدته.. أو سيأتي يوما ولا يأتي يوما وقوله: {ولا هم ينصرون}.. النصرة تأتي على معنيين.. تأتي بمعنى أنه لا يغلب.. وتأتي بمعنى أن هناك قوة تنتصر له أي تنصره.. كونه يغلب.. الله سبحانه وتعالى غالب على أمره فلا أحد يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.. ولكن الله يملك النفع والضر لكل خلقه.. ويملك تبارك وتعالى أن يقهر خلقه على ما يشاء.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ} من الآية 188 سورة الأعراف.
أما مسألة أن ينصره أحد.. فمن الذي يستطيع أن ينصر أحدا من الله واقرأ قوله سبحانه وتعالى عن نوح عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ} من الآية 30 سورة هود.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {فلا يخفف عنهم العذاب}.. أمر لم يقع بعد بل سيقع مستقبلا.. يتحدث الله سبحانه وتعالى عنه بلهجة المضارع.. نقول إن كل أحداث الكون ما سيقع منها هو عند الله تم وانتهى وقضى فيه.. لذلك نجد في القرآن الكريم قوله سبحانه: {أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} من الآية 1 سورة النحل.
أتى فعل ماضي.. ولا تستعجلوه مستقبل.. كيف يقول الله سبحانه وتعالى أتى ثم يقول لا تستعجلوه؟ إنه مستقبل بالنسبة لنا.. أما بالنسبة لله تبارك وتعالى فمادام قد قال أتى.. فمعنى ذلك أنه حدث.. فلا أحد يملك أن يمنع أمرا من أمور الله من الحدوث.. فالعذاب آت لهم آت.. ولا يخفف عنهم لأن أحدا لا يملك تخفيفه. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}.
أخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {لا تسفكون دماءكم} بنصب التاء وكسر الفاء ورفع الكاف.
وأخرج عبد بن حميد عن طلحة بن مصرف أنه قرأها {تسفكون} برفع الفاء.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} يقول: لا يقتل بعضكم بعضًا {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} يقول: لا يخرج بعضكم بعضًا من الديار، ثم أقررتم بهذا الميثاق وأنتم تشهدون. يقول: وأنتم شهود.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ثم أقررتم وأنتم تشهدون} إن هذا حق من ميثاقي عليكم {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} أي أهل الشرك ختى تسفكوا دماءكم معهم {وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم} قال: تخرجونهم من ديارهم معهم {تظاهرون عليهم بالإِثم والعدوان} فكانوا إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، وظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقًا لما في التوراة {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم {وهو محرم عليكم} في كتابكم {إخراجهم} {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} أتفادونهم مؤمنين بذلك وتخرجونهم كفرًا بذلك.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية. أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب، فقال له عبد الله بن سلام: أما أنه مكتوب عندك في كتابك أن فادوهن كلهن.
وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قرأ {وإن يأتوكم أسارى تفدوهم}.
وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن أنه قرأ {أسارى تفادوهم}.
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن الأعمش قال: في قراءتنا {وإن يؤخذوا تفدوهم}.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: يكون أول الآية عامًا وآخرها خاصًا، وقرأ هذه الآية: {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون}.
وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} قال: استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال في صفوة التفاسير:
البلاغة:
1- {لا تعبدون إلا الله} خبر في معنى النهي، وهو أبلغ من صريح النهي، كما قال أبو السعود لما فيه من إيهام أن المنهي، حقه أن يسارع إلى الانتهاء، فكأنه انتهى عنه، فجاء بصيغة الخبر، وأراد به النهي.
2- {وقولوا للناس حسنا} وقع المصدر موقع الصفة أي قولًا حسنا أو ذا حسن للمبالغة، فإن العرب تضع المصدر مكان اسم الفاعل أو الصفة، بقصد المبالغة فيقولون: هو عدل، كأنه لشدة عدالته عين العدل.
3- التنكير في قوله: {خزي في الحياة الدنيا} للتفخيم والتهويل.
4- {تقتلون أنفسكم} عبر عن قتل الغير بقتل النفس، لأن من أراق دم غيره، فكأنما أراق دم نفسه، لأن الناس كأنهم جسد واحد، فالعدوان عليهم عدوان على النفس الإنسانية.
5- {أفتؤمنون}؟ الهمزة للإنكار التوبيخي، والتوبيخ أسلوب من أساليب البيان. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قد تقدم إعراب نظائرها إلا أنّ بعضهم ذكر وجوهًا مردودة لابد من التنبيه عليها، فأجاز أن يكون {أولئك} مبتدأ، و{الذين اشتروا} خبره، {فلا يُخَفَّف عنهم العَذَاب} خبرًا ثانيًا ل {أولئك}.
قال: ودخلت الفاء في جواب الخبر لأجل الموصول المشبه بالشرط وهذا خطأ فإن قوله: {فَلا يُخَفَّفُ} لم يجعله خبرًا للموصول حتى تدخل الفاء في خبره، وإنما جعله خبرًا عن {أولئك} وأين هذا من ذاك؟
وأجاز أيضًا أن يكون الذين مبتدأ ثانيًان و{فلا يخفف} خبَره، دخلت لكونه خبرًا للموصول، والجملة خبرًا عن {أولئك}.
قال: ولم يَحْتَج هذا إلى عائد؛ لأن {الذين} هم {أولئك} كما تقول: هذا زيد منطلق، وهذا أيضًا خطأ لثلاثة أوجه:
أحدها: خلوّ الجملة من رابط، وقوله: لأن {الذين} هم {أولئك} لا يفيد، فإن الجملة المستغنية لابد وأن تكون نفس المبتدأ.
وأما تنظيره بهذا زيد منطلق فليس بصحيح، فإن هذا مبتدأ وزيد خبره، ومنطلق خبر ثانٍ، ولا يجوز أن يكون زيد مبتدأ ثانيًا، ومنطلق خبره، والجملة خبر عن الأول، للخلو من الرابط.
الثاني: أن الموصول هنا لقوم معيّنين وليس عامًّا، فلم يُشبه الشرط، فلم تدخل الفاء في خبره.
الثالث: أن صلته ماضية لفظًا ومعنى، فلم تشبه فعل الشرط في الاستقبال، فلا يجوز دخول الفاء في الخبر.
فتعيّن أن يكون {أولئك} مبتدأ والموصول بصلته خبَره، و{فلا يخفف} معطوف على الصِّلَةِ، ولا يضر تَحَالُف الفعلين في الزمان، فإنّ الصِّلاتِ من قبيل الجُمَل، وعطف الجمل لا يشترط فيه اتحاد الزمان، فيجوز أن تقول: جاء الذي قتل زيدًا أمس، وسيقتل عَمْرًا غدًا، وإنما الذي يشترط فيه ذلك حيث كانت الأفعال منزلة منزلة المفردات.
وقيل: دخلت الفاء بمعنى جواب الأمر كقوله: أولئك الضّلال انتبه فلا خير فيهم.
قوله: {وَلاَ هُمْ يَنْصَرُونَ} يجوز في هو وجهان:
أحدهما: أن يكون محلّ رفع بالابتداء، وما بعده خبره، ويكون قد عطف جملة اسمية على جملة فعلية وهي: {فلا يخفف}.
والثاني: أن يكون مرفوعًا بفعل محذوف يفسره هذا الظاهر، وتكون المسألةُ مِنْ باب الاشتغال، فما حذف الفعل انفصل الضَّمير؛ ويكون كقوله: الطويل:
فإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا ** فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيلُ

وله مرجّح على الأول بكونه قد عطف جملة على مثلها، وهو من المواضع المرجح فيها الحمل على الفعل في باب الاشْتِغَال.
وليس المرجوح كونه تقدمه لا النافية، فإنها ليست من الأدوات المختصة بالفعل ولا الاولى به، خلافًا لابن السيد حيث زعم أَنَّ لا النافية من المرجّحات لإضمار الفِعْل، وهو قول مرغوب عنه لكنه قَوِيَ من حيث البحث.
فقوله: {ينصرون} لا محلّ له على هذا؛ لأنه مُفَسِّرٌ، ومحلّه الرفع على الأولى لوقوعه موقع الخبر. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (87):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما بين لهم أنهم نقضوا العهود فأحاطت بهم الخطايا فاستحقوا الخلود في النار توقع السائل الإخبار عن سبب وقوعهم في ذلك هل هو جهل أو عناد فبشع سبحانه ذلك عليهم بما افتتحه بحرف التوقع فقال: {ولقد} باللام التي هي توكيد لمضمون الكلام، وقد هي لوقوع مرتقب مما كان خبرًا أو مما سيكون علمًا- قاله الحرالي.
{آتينا} أي بعظمتنا {موسى الكتاب} أي نقضتم تلك العهود مع أن عندكم فيها كتاب الله التوراة تدرسونه كل حين، فلم ندعكم هملًا بعد موسى عليه السلام بل ضبطنا أمركم بالكتاب {وقفينا} من التقفية وهي متابعة شيء شيئًا كأنه يتلو قفاه، وقفاء الصورة منها خلفها المقابل الموجه- قاله الحرالي: {من بعده} أي بعد موسى {بالرسل} أي ثم لم نقتصر على الضبط بالكتاب الذي تركه فيكم موسى بل واترنا من بعده إرسال الرسل مواترة، وجعلنا بعضهم في قفاء بعض ليجددوا لكم أمر الدين ويؤكدوا عليكم العهود والرسالة انبعاث أمر من المرسل إلى المرسل إليه {وآتينا} بما لنا من العظمة {عيسى} اسم معرب.
أصله يسوع {ابن مريم} الذي أرسلناه لنسخ بعض التوراة تجديد ما درس من بقيتها {البينات} من الآيات العظيمة التي لا مرية فيها لذي عقل، والبينة من القول والكون ما لا ينازعه منازع لوضوحه- قاله الحرالي: {وأيدناه} أي قويناه على ذلك كله، من التأييد وهو من الأيد وهو القوة، كأنه يأخذ معه بيده في الشيء الذي يقويه فيه، كأخذ قوة المظاهرة من الظهر، لأن الظهر موضع قوة الشيء في ذاته، واليد موضع قوة تناوله لغيره- قاله الحرالي: {بروح القدس} أي الروح الطاهر وهو جبريل عليه السلام كما أيدنا به غيره من أولي العزم.
قال الحرالي: والروح لمحة من لمحات أمر الله، وأمر الله قيوميته في كلية خلقه ملكًا وملكوتًا، فما هو قوام الخلق كله ملكًا وملكوتًا هو الأمر {ألا له الخلق والأمر}، [الأعراف: 54]، وما هو قوام صورة من جملة الخلق هو الروح الذي هو لمحة من ذلك الأمر؛ ولقيام عالم الملكوت وخصوصًا جملة العرش بعالم الملك وخصوصًا أمر الدين الباقي سماهم الله روحًا، ومن أخصهم روح القدس، والقدس الطهارة العلية التي لا يلحقها تنجس على ما تقدم، ومن أخص الروح به جبريل عليه السلام بما له من روح الأمر الديني، وإسرافيل عليه السلام بما له من روح النفخ الصوري. انتهى.
وقد كان لعيسى عليه السلام بالروح مزيد اختصاص لكثرة ما أحيى من الموتى؛ والمعنى فعلنا بكم يا بني إسرائيل ذلك ولم تزالوا في عهد جميع من ذكر ناقضين للعهود، فلا أحد أحق منكم بالخلود في النار، ثم جاء محمد صلى الله عليه وسلم فلم تصدقوه.
ذكر شيء من الإنجيل يدل على أنه عليه السلام أتى بالبينات مع تأييده بروح القدس مستخلصًا من الأناجيل الأربعة وقد جمعت بين ألفاظها، قال متى- ومعظم السياق له: فلما سمع يسوع أن يوحنا- يعني يحيى بن زكريا عليهما السلام- قد أسلم- يعني خذله أصحابه مضى إلى الجليل وترك الناصرة وجاء وسكن كَفَرناحوم التي على ساحل البحر في تخوم زابلون وبغتاليم ليكمل ما قيل في أشعيا النبي إذ يقول: أرض زابلون أرض بغتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا الجلوس في الكورة وظلال الموت نورًا أشرق عليهم، ومن ذلك بعد حبس يوحنا وافى يسوع إلى الجليل يكرز بإنجيل ملكوت الله قائلًا: قد كمل الزمان وقربت ملكوت الله! فتوبوا وآمنوا بالإنجيل.
قال متى: وكان يمشي على بحر الجليل فأبصر أخوين سمعان الذي يدعى بطرس واندراوس أخاه يلقيان شباكهما في البحر لأنهما كانا صيادين، فقال لهما: اتبعاني أجعلكما تكونان صيادي الناس وللوقت تركا شباكهما وتبعاه؛ وجاز من هناك فرأى أخوين آخرين يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه في سفينة مع أبيهما زبدي يصلحون شباكهم فدعاهما، فللوقت تركا السفينة وأباهما زبدي وتبعاه وفي إنجيل يوحنا بعد قصة يحيى بن زكريا الآتية في آل عمران: هذا كان في بيت عينا في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد، ومن الغد نظر يسوع مقبلًا إليه فقال: هذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم! هذا ذلك الذي قلت من أجله: إنه يأتي وهو كان قبلي لأنه أقدم مني وأنا لم أكن أعرفه لكن ليظهر لإسرائيل، من أجل هذا جئت أنا لأعمد بالماء؛ وشهد يوحنا وقال: إني رأيت الروح نزل من السماء مثل حمامة وحل عليه ولم أعرفه، لكن من أرسلني لأعمد بالماء هو الذي قال: الذي ترى الروح ينزل ويثبت عليه هو يعمد بروح القدس.
وأنا عاينت وشهدت: وفي الغد كان يوحنا واقفًا واثنان من تلاميذه فنظر يسوع فقال: هذا حمل الله! فسمع تلميذاه كلامه فتبعا يسوع، فالتفت يسوع فرآهما يتبعانه فقال لهما: ماذا تريدان؟ قالا له: ربي- الذي تأويله يا معلم- أين تكون؟ فقال لهما: تعاليا لتنظرا، فأتيا وأبصرا موضعه أين يكون، وأقاما عنده يومهما ذلك وكان نحو عشر ساعات، وإن واحدًا من اللذين سمعا من يوحنا وتبعا يسوع كان اندراوس أخا سمعان وإنه أبصر أولًا سمعان أخاه وقال له: قد وجدنا مسيًا- الذي تأويله المسيح- فجاء به إلى يسوع؛ فلما نظر إليه يسوع قال له: أنت سمعان بن يونان الذي يدعى الصفا- الذي تأويله بطرس ومن الغد أراد الخروج إلى الجليل فلقي فيليس ناتاناييل وقاله له: الذي كتب موسى من أجله في الناموس والأنبياء وجدناه وهو يسوع الذي من الناصرة، فقال له: ناتاناييل هل يمكن أن يخرج من الناصرة شيء فيه صلاح؟ فقال له فيليس: تعال وانظر، فلما رأى يسوع ناتاناييل مقبلًا إليه قال: من أجله هذا حقًا إسرائيلي لا غش فيه، فقال له ناتاناييل: من أين تعرفني؟ فقال له يسوع: قبل أن يدعوك فيليس وأنت تحت التينة رأيتك فقال له: يا معلم! أنت هو ملك إسرائيل، قال له يسوع: لأني قلت لك إني رأيتك تحت التينة آمنت سوف تعاين ما هو أعظم من هذا، وقال له: الحق الحق أقول لكم، إنكم من الآن ترون السماء مفتحة وملائكة الله ينزلون ويصعدون على ابن البشر.
وفي اليوم الثالث كان عرش في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ودُعي يسوع وتلاميذه إلى العرش وكان الخمر قد فرغ، فقالت أم يسوع له: ليس لهم خمر، فقال لها يسوع: ما لي ولك أيتها المرأة لم تأت ساعتي بعد؟ فقالت أمه للخدام: افعلوا ما يأمركم به، وكان هناك ستة أجاجين من حجارة موضوعة لتطهير اليهود تسع كل واحدة مطرين أو ثلاثة، فقال لهم يسوع: املئوا الأجاجين ماء، فملئوها إلى فوق، وقال لهم: اغرفوا الآن وناولوا رئيس السقاة، فلما ذاق رئيس السقاة ذلك الماء المتحول خمرًا لم يعلم من أين هو، فدعا رئيس السقاة العريس وقال له: كل إنسان إنما يأتي بالشراب الجيد أولًا فإذا سكروا عند ذلك يأتي بالدون وأنت أبقيت الجيد إلى الآن! هذه الآية الأولى التي فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده وآمن به تلاميذه.
وبعد هذا انحدر إلى كفرناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه فأقاموا هناك أيامًا يسيرة؛ ثم قال: وعلم السيد يسوع أن الفريسيين سمعوا أنه قد اتخذ تلاميذ كثيرة وأنه يعمد أكثر من يوحنا إذ ليس هو يعمد بل تلاميذه فترك اليهودية ومضى إلى الجليل وكان قد أزمع أن يعبر على موضع السامرة، فأقبل إلى مدينة السامرة التي تسمى بسوخار إلى جانب القرية التي كان يعقوب وهبها ليوسف ابنه وكان هناك بئر يعقوب وكان يسوع قد عيى من تعب الطريق، فجلس على البئر في ست ساعات، فجاءت امرأة من السامرة تستقي ماء، فقال لها يسوع أعطيني أشرب- وكان تلاميذه قد دخلوا إلى المدينة ليبتاعوا لهم طعامًا- فقالت له تلك المرأة: كيف وأنت يهودي تستقي الماء وأنا امرأة سامرية واليهود لا يختلطون بالسامرة! أجاب يسوع وقال لها: لو كنت تعرفين عطية الله ومن هذا الذي قال لك: ناوليني أشرب، لكنت أنت تسألينه أن يعطيك ماء الحياة! قالت المرأة: يا سيد! إنه لا دلو لك والبئر عميقة فمن أين لك ماء الحياة؛ لعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا هذه البئر ومنها شرب هو وبنوه وماشيته! فقال لها: كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا، فأما من يشرب من الماء الذي أعطيه لا يعطش إلى الأبد، قالت المرأة: يا سيد! أعطني من هذا الماء لئلا أعطش ولا أجيء ولا أستقي من ههنا، فقال: انطلقي وادعي زوجك وتعالي إلى هاهنا، قالت: ليس لي زوج، قال لها: حسنًا قلت: إنه لا بعل لي، لأنه قد كان لك خمسة بعولة والذي هو لك الآن ليس هو زوجك، أما هذا فحقًا قلت، قالت: يا سيد! إني أرى أنك نبي، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون: إنه ياروشليم المكان الذي ينبغي أن يسجد فيه، قال: أيتها المرأة! آمني به، إنه ستأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في يروشليم يسجدون للأب، أنتم تسجدون لما لا تعلمون ونحن نسجد لما نعلم، لكن ستأتي ساعة وهي الآن لكيما الساجدون المحقون يسجدون بالروح والحق، والرب إنما يريد مثل هؤلاء الساجدين، والذين يسجدون له بالروح والحق ينبغي أن يسجدوا، قالت المرأة: قد علمت أن مَسيا الذي هو المسيح يأتي، فإذا جاء ذاك فهو يعلمنا كل شيء، فقال: أنا هو الذي أكلمك وفي هذا جاء تلاميذه وتعجبوا من كلامه مع امرأة ولم يقل أحد: ماذا تريد ولم تكلمها فتركت المرأة جرّتها ومضت إلى المدينة وقالت للناس: تعالوا انظروا رجلًا أعلمني كل ما فعلت، لعل هذا هو المسيح، فخرجوا من المدينة وأقبلوا نحوه؛ وفي هذا سأله تلاميذه قائلين: يا معلم! كل، فقال: إن لي طعامًا لا تعرفونه أنتم، فقالوا فيما بينهم: لعل إنسانًا وافاه بشيء فطعمه، فقال: طعامي أنا أن أعمل مسرة من أرسلني وأتم عمله أليس أنتم تقولون: إن الحصاد يأتي بعد أربعة أشهر، وأنا قائل لكم: ارفعوا أعينكم وانظروا إلى الكور قد ابيضت وبلغت الحصاد، والذي يحصد يأخذ الأجرة ويجمع ثمار الحياة الدائمة، والزارع والحاصد يفرحان معًا، لأنه في هذا توجد كلمة الحق، إن واحدًا يزرع وآخر يحصد، أنا أسألكم تحصدون شيئًا ليس أنتم تعبتم فيه بل آخرون تعبوا فيه وأنتم دخلتم على تعب أولئك؛ فآمن به في تلك المدينة سامريون كثيرون من أجل كلمة تلك المرأة، ولما صار إليه السامريون طلبوا إليه أن يقيم عندهم، فمكث عندهم يومين فآمن به كثير، وكانوا يقولون للمرأة: لسنا من أجل قولك نؤمن به لكنا قد سمعنا وعلمنا أن هذا هو المسيح بالحقيقة مخلص العالم.
وبعد يومين خرج يسوع إلى الجليل ومضى من هناك، لأنه شهد أن النبي لا يكرم في مدينته، ولما صار إلى الجليل قبله الجليليون، لأنهم عاينوا كل ما عمل بايروشليم في العيد؛ ثم جاء يسوع حيث صنع الماء خمرًا وكان في كفرناحوم عند الملك ابن مريض فسمع أن يسوع قد جاء من يهودا إلى الجليل، فمضى إليه وسأله أن ينزل ويبرئ ولده، لأنه قد كان قارب الموت، فقال له يسوع: إن لم تعاينوا الآيات الأعاجيب لا تؤمنون، فقال له الملك: انزل يا سيد قبل أن يموت فتاي، قال له يسوع: امض فابنك حي، فآمن الرجل بالكلمة التي قالها يسوع ومضى، وفيما هو ماض استقبله علمانه وبشروه بأن ابنه قد عاش، فسألهم: في أي وقت؟ فقالوا له: أمس في الساعة السابعة تركته الحمى، فعلم أبوه أنه في تلك الساعة التي قال له يسوع فيها: إن ابنك قد حيي، فآمن هو وبيته بأسره؛ وهذه أيضًا آية ثانية عملها يسوع لما جاء من يهودا إلى الجليل.
قال مرقس: فأقبل إلى كفرناحوم وبقي يعلم في مجامعهم يوم السبت، فتعجبوا من تعليمه لأنه كان كالمسلط.
قال متى: وكان يسوع يطوف في كل الجليل ويعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويبرئ كل برص ووجع في الشعب، فخرج خبره في جميع الشام فقدم إليه كل من به أصناف الأمراض والأوجاع المختلفة والذين بهم الشياطين والمعترين في رءوس الأهلة والمخلعين فأبرأهم، وتبعه جموع كثيرة من الجليل والعشرة المدن ويروشليم واليهودية وعبر الأردن، فلما أبصر الجميع صعد إلى الجبل وجلس، وجاء إليه تلاميذه وفتح فاه يعلمهم قائلًا: طوبى للمساكين بالروح! فإن لهم ملكوت السماوات، طوبى للحزانى! فإنهم يعزون، طوبى للمتواضعين! فإنهم يرثون الأرض، طوبى للجياع والعطاش من أجل البر! فإنهم يشبعون، طوبى للرحماء! فإنهم يرحمون، طوبى للنقية قلوبهم! فإنهم يعاينون الله، طوبى لفاعلي السلامة! فإنهم بني الله يُدعون، طوبى للمطرودين من أجل البر! فإن لهم ملكوت السماوات طوبى لكم إذا طردوكم وعَيَّروكم وقالوا فيكم كل كلمة شر من أجلي؛ افرحوا وتهللوا، فإن أجركم عظيم في السماوات، لأن هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم.
وقال لوقا: هكذا كان آباؤكم يصنعون بالأنبياء الويل لكم أيها الأغنياء! لأنكم قد أخذتم عزاكم، الويل لكم أيها الشباعى الآن! فإنكم ستجوعون؛ الويل لكم أيها الضاحكون الآن! فإنكم ستبكون وتحزنون، الويل لكم إذا قال الناس فيكم قولًا حسنًا! لأن آباءهم كذلك فعلوا بالأنبياء الكذبة- يعني المتنبئين- وفيه من الألفاظ التي لا يجوز إطلاقها في شرعنا حمل الله والأب، وقوله: بني الله، وسيأتي إن شاء الله تعالى في آل عمران تأويل مثل هذا على تقدير صحته عنه وأنه يرد إلى المحكم على أوضح وجه مثل الألفاظ التي وردت في شرعنا ورددناها إلى المحكم، وضل بها من حملها على ظاهرها ممن يدعي الإسلام والله الموفق.
ولما كان هذا حالهم مع الرسل مع أنسهم بهم ومعرفتهم بأحوالهم واتصالهم بالله وكمالهم علم أنهم في منابذتهم لهم عبيد الهوى وأسرى الشهوات، فتسبب عن ذلك الإنكار عليهم فقال: {أفكلما} أي أفعلتم ما فعلتم من نقض العهود مع مواترة الرسل ووجود الكتاب فكلما {جاءكم رسول} أي من عند الله ربكم {بما لا تهوى أنفسكم} من الهوى وهو نزوع النفس لسفل شهوتها في مقابلة معتلى الروح لمنبعث انبساطه، كأن النفس ثقيل الباطن بمنزلة الماء والتراب، والروح خفيف الباطن بمنزلة الهواء والنار، وكأن العقل متسع الباطن بمنزلة اتساع النور في كلية الكون علوًا وسفلًا- قاله الحرالي: وقد دل على أن المراد الباطل بالتعبير بالهوى والنفس {استكبرتم} أي طلبتم الكبر وأوجدتموه بما لكم من الرئاسة على قومكم عن قبول الحق ميلًا إلى سنة إبليس مع إعطائكم العهد قبل ذلك على الدوام على اتباعه {ففريقًا} أي فتسبب عن طلبكم الكبر أنكم فريقًا {كذبتم} كعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام {وفريقًا تقتلون} أي قتلتم ولم تندموا على قتلهم بل عزمتم على مثل ذلك الفعل كلما جاءكم أحد منهم بما يخالف الهوى وهم لم يبعثوا إلا لصرف الأنفس عن الهوى لأن دعوة الرسول إلى الأعلى الذي هو ضد هوى النفس؛ والظاهر أنه سبحانه أشار بهذه الصيغة المستقبلة إلى قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسم في خيبر كما أشار إليه الحديث الماضي آنفًا. اهـ.